محمد باقر الصدر
تنتظم هذه الروافد في خمسة اقسام رئيسة هي:
الأول: روافد الإعداد النفسي للشعور بعظمة الشهر المبارك ,ومقام الصائم وأهمية العبادة مطلقاً فيه.
الثاني: روافد الإعداد النفسي للشعور بنوعية الحكم المتوخاة من عملية الصوم.
الثالث: روافد الجو القدسي الروحي المفعم بالأعمال الصالحة,والمستحبات الكثيرة.
الرابع: روافد الذكريات.
الخامس: روافد تشريع العيد ومايحويه من إيحاءات.
...ماأروع أن يشعر الانسان – حق الشعور – بذلك.. خالقه الرحيم يدعوه اليه في ضيافة كريمة خاصة ينسبها الى نفسه بالخصوص,مع أن الموجودات كلها تعيش في ضيافته ونعمته في كل آن وبكل معنى كان,ولكنها ضيافة خاصة,فكما أن المكان كله لله,ولكن الله تعالى نسب بقاعاً مقدسة اليه بالخصوص ليؤكد على أهميتها...كذلك فإن الزمان كله له سبحانه ,ولكنه نسب الشهر المبارك اليه بالخصوص فهو – كما يقول (ص):-
(شهر الله) وهو عند الله أفضل الشهور,وأيامه أفضل الأيام,ولياليه أفضل الليالي ,وساعاته أفضل الساعات.
وعلى نفس الاسلوب نقول بأن الأعمال كلها – وخصوصاً المأمور بها شرعاً,والأعمال العبادية بالأخص – هي لله تعالى خاصة,وان الجزاء إنما هو من الله لاغير ,إلا أننا نجد الحديث القدسي يقول:
الصوم لي وأنا أجزي به.
وذلك لإبداء العناية الخاصة بمثل تلك الأزمنة والأمكنة وهذه الأعمال العبادية مما يؤكد وجود الميزات الملحوظة بهذه العناية الخاصة,ويثبت أهمية واحتراماً خاصين في خلد المسلم لهذه اللحظات المقدسة.
وتزداد الإيماءات عطاء عندما يوجه الخطاب بالصوم – والاستقبال اللائق لشهر الصوم – الى الناس...جمع الناس.
...(أيها الناس إنه قد اقبل اليكم شهر الله) فأقيموا اليه بقلوب ملؤها الأمل لتكونوا فيه من (أهل كرامة الله) ومع الشعور بالكرامة الإلهية يمتلىء وجود الانسان المسلم بالأحاسيس الخيرة.
وتقوى العزائم وتتأصل جذور العمل حين تعلم هذه الأمة أنها تؤدي فريضة عظمى وتدخل دورة دخلتها كل الأمم المؤمنة من قبلها:
(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)(البقرة/183).
فهي إذن حلقة مشرقة من حلقات يضمها ويشدها هدف واحد في مسيرة واحدة في طريق الكمال,ترعاها عناية الله,ويسددها توفيقه,وتصنع على عينه,وتهدى بشرائعه الغراء.
بكل هذه الأحاسيس تقترب المسيرة البشرية من أبواب الشهر المبارك,فترتسم لمخيلتها الصور المتواثبة البكر,وتسبح في عالم من الرحمة والبركة..ويتوضح المشهد...
هناك على الأبواب يحلق الطهر,وترف الانداء ممتلئة في ملائكة أطهار أبرار..وقفوا بكل مافيهم من نقاء لاستقبال البشرية الملبية لنداء الله...وهناك في الأعالي بشير رحمة جلى بأن (أبواب الجنان مفتحة) تشير للركب,أن سر في طريقك,واترع الشوق زاداً الى مرضاة الله تعالى,و(أن أبواب النيران مغلقة) و(الشياطين مغلولة) وقد باعد الله بينهما وبين الإنسانية بعد المشرق عن المغرب مسودة الوجوه,تشعر بأن أهدافها الشريرة تتحطم على صخرة الحقيقة,وغاياتها يزورها العزم الذي تتربى عليه البشرية..
فهي تموت – إذن – حينما يحيا الصوم في هذه الأمة.
...وهكذا تصل المسيرة الواعية فينهل الخير,وتحلق الملائكة,وتمسح وجهها ترحيباً وإكراماً,وتزرع في قلبهم البشرى الكريمة بالعفو.
وتبدأ الدورة في جو من الخشوع,إنه الخشوع الذي يوجده الإيمان,لا الخشوع الذي يوجده الذل عند العقاب,ويبدأ المنعطف بأن يظلل البشرية شهر فضيل..تعيش فيه أسمى لحظاتها مع أسمى أهدافها..برعاية ربها الرحيم الودود.
وتتصاعد المشاعر رويداً رويداً حتى تتأجج في ليلة القدر,وهنا يترك العنان للخيال..ليتصور سويعاتها القليلة وهي تعادل الف شهر!! إن ذلك يمنح البشرية شعوراً بأن الحياة في ظل الله هي خير وأجل من أية حياة أخرى,مهما عظمت,مادامت لاتمتلك ذلك الشرف...وتنهل بعد ذلك النعم متوالية خلال ذلك الشهر..فالإنسان كباقي الأحياء,يتنفس بصورة رتيبة لايشعر بها في أكثر الأحيان ,ولكن المنحة الإلهية تسجل له هذه الأنفاس تسبيحاً وتزيهاً!! فما أجمل أن يتحول الإنسان بكل ما يملك الى وجود يسبح الله – تعالى – نفسه ومشاعره ,كما يسبحه عقله وفطرته..وفي التسبيح والتنزيه يؤدي الصوم أهدافه المرجوة.
والإنسان في نومه يغيب عن الوجود,ولايشعر به,ولكن الرحمة واللطف الإلهيين تحولان النوم عبادة وقياماً بمقتضيات العبودية له تعالى...!! والعبادة تستتبع – الكمال والثواب..
ويعمل الانسان في باقي الأوقات,ولكنه بين أمل من جهة بالقبول,ووجل من جهة أخرى من الرفض,ولكنه هنا في رمضان ترجح لديه كفة الأمل بالقبول بمقتضى وعد – من الله تعالى – بالقبول..انها البركة الواقعية لأعمال العباد.
ويدعو الإنسان في غير الشهر المبارك في مواطن كثيرة ولكنه لايعلم مقدار تحقق شرائط الاستجابة ,بل قد يرجح لديه هو عدم القبول,لاطلاعه على نفسه,وكونه أبصر بها وبنقائصها ,ولكنه هنا – في رمضان الخير – مزود عندما يدعو بوعد إلهي خاص,بسد النواقص – إلا الأساسية – إذا تحققت النية الصادقة ,وظهر القلب,إذ بدونذلك تفقد العملية روحها,ويتحول العمل الى قالب أجوف بعيد عن المضمون.
وكل هذه الأحاسيس تتأكد على عتبة أداء الصلاة في الشهر المبارك.
ولئن كان الإنسان يسعى ليكون كالملائكة نفسها معجبة بعمله,تدعو له بالتوفيق ,فيمتلىء حبوراً وغبطة,ويعمل على أن يكون بالمستوى اللائق لهذه الكرامة الإلهية الفذة وعندها يتحقق الهدف.
ولامتناع الصائم عن الطعام قد يتكون في الفم خلوف فيه رائحة كريهة,ولكن حتى هذا الخلوف يعتبر – عند الله تعالى – أطيب من ريح المسك.
وما أن تحين ساعة الإفطار..حيث يصدر الإذن المقدس بإنهاء مرحلة من مراحل الدورة التربوية العظمى..حتى تتطلع الأرواح الصائمة الى نداء قدسي جليل يخص به الصائم المتعب (ما أطيب ريحك وروحك) وتنصت القلوب الى استشهاد كريم:
"ياملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له".
ويعيش الصائمون ليالي شهر رمضان المبارك بكل جلالها وبهائها حتى السحر حيث تبدأ عملية الإعداد للمرحلة التالية بتناول "السحور" وحينها ايضاً تظلهم رحمة الله تعالى وتسمع القلوب أصواتاً نقية مقدسة ,في حين تغمرها صلوات الله وملائكته عند استغفارها.
ويتطلع الكون في كل ليلة الى عتقاء من النار يتضاعف عددهم ليلة بعد ليلة حتى يبلغ القمة ليلة العيد.